هاهي السيارات واقفة على جنبات الطريق ، جموع من الناس تهرع إلى حافة الطريق هناك ، تجمّع كبير ، أصوات باكية ، ووجوه يعلوها الاستغراب ، ضجيج يتجاوز زجاج سيارتي ، توقّف السير ، زاد الزحام ، لم أجد بُدّاً من النزول ، أوقفت سيارتي ، انطلقت هناك حيث يجتمع الناس ، مشهد غريب ، ومنظر محزن ، وموقف مهول ، سيارة مبعثرة من أثر حادث ، تشتعل بها النيران ، ثلاثة من الشباب داخل السيارة ، اثنان تجاوز لهب النار منهما معقد الإزار ، والثالث يلفظ أنفاسه ، دماء تتصبب ، وحريق يتأجج ، وبكاء وعويل ، الغريب في الأمر أن صوتاً نشازاً ينبعث من تلك السيارة . صوت غناء يدوّي في آذان الحاضرين ، حاول أحد الحاضرين أن يوقف هذا الصوت لكن دون فائدة ، فقد حال بينهم وبينه لهب النار المتطاير هناك . وبعد زمن من المحاولة وقفت تلك النار المشتعلة ، وتوقّف ذلك الصوت النشاز ، التف الناس حول أولئك الشباب ، اثنان منهما غادرا الحياة ولم تُبْق فيهم النار شيئاً يذكر ، أما الثالث فلا زال ينبض بالحياة ، غير أنه في حال بشعه ، يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ويختم آخر حياته بصوت الغناء ، يردده ويودّع به هذه الحياة ، قيل له : قل لا إله إلا الله ! كُرّر عليه الطلب ، تجمّع الناس حوله ، ارتفعت الأصوات تنادي بأن يختم حياته بكلمة التوحيد ، فلم يكن شيئاً من ذلك ، لفظ آخر أنفاسه بذلك الصوت ، ورحل وهو يردد صوت الغناء الذي ينبعث من سيارته ، وكانت نهايته على تلك الحال ، غُسّل أولئك الشباب ، وواراهم الناس تراب المقابر ، ولا زال صدى صوت ذلك الغناء في آذان الحاضرين ، وفي زحمة العزاء راع الناس صوت أخاه وهو يبكي فقده ، ويتحسّر على فواته ، ويبكي لمأساته ، وكأن صورة النهاية تعرض على ذاكرته فيهيَّج بكاؤه . هذه قصة حقيقية وقعت لهؤلاء الشباب ، وهي قصة تحكي سوء خاتمتهم عافانا الله وإياكم ، كيف لا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات على شيء بعثه الله عليه .
أخي الحبيب : إن الغناء أصله مرض شهوة تنتاب القلوب ، فيسقيها الغناء بمائه الآسن حتى يروّي عروقها بالمرض فينسى مع ذلك معالم الحياة الكريمة . ويعيش ألم جحيم المعصية ، ويستمر صدى الجحيم حتى يرحل من هذه الحياة وهو يئن من أثر وعواقب ذلك المرض المشين .
أخي الحبيب : لقد جاء التحذير من الغناء في كتاب الله تعالى في أكثر من آية ، قال الله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ) وقد فسر هذه الآية بالغناء حبر الأمة ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد ، وعلى ذلك أكثر المفسرين . وهو المراد في قول الله تعالى : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) وفي البخاري معلقاً بصيغة الجزم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف . وفي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ ، قيل يارسول الله متى ؟ قال : إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمرة . وجماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى على تحريم سماعه . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه أنه من شعار الفسّاق وشاربي الخمور . اهـ
أخي الحبيب : الغناء عافانا الله وإياك سبب من أسباب سوء الخاتمة ، ودليل ذلك تلك القصص التي ترويها الأحداث في طيات الأيام ، فتكتب بها معالم من معالم الحسرة والشقوة في حياة من شهدها . وكم هم أولئك الذين عكفوا على سماعه ؟ وأدمنوا ذلك في حياتهم اليومية ؟ فكان بلاؤهم أن استحوذ عليهم حتى رحلوا وهم يرددونه ، وسيبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه ، فيالله أي نهاية تلك التي رحلوا بها ؟ وأي خسارة تلك التي يعيشونها هناك ؟ وصدق ابن القيم حين قال : ومن عقوبات المعاصي : أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ... وثمّ أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمرّ وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله ، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة ، قيل لبعضهم : قل لا إله إلا الله ! فجعل يهذي بالغناء حتى قضى . اهـ .
أخي الحبيب : إن الفرص تمر في حياة الإنسان كثيراً ، والعاقل الحصيف من انتبه لها وتشبّث بها ، وعاشها على أنها فرصة العمر الوحيدة في حياته . وأكتب لك اليوم هذه الرسالة وأنت تعيش أعظم فرصة في حياتك ، فرصة شهودك لشهر رمضان الكريم جعلني الله وإياك ممن عمره بطاعة الله ورضوانه .
أخي الحبيب : هاهو رمضان يلقاك بعد أن حرم منه غيرك ، تشهد نهاره بسمته ، وليله بنسماته وآخران من أهلك وصحبك يلقيانه غير لقائك ، أما الأول فمريض مقعد لا يعرف من رمضان إلا أهازيج الناس لكنه لا يملك التعبير عن فرحته معهم . وأما الثاني فقد واراه التراب ، وهو في طيات الحفر يتمنى لقاءه . قد حيل بينه وبين أمنياتك ، فيالله كم بين هذه المشاهد من أحوال وذكريات .
أخي الحبيب : إن سماع الغناء ذلة ومقت بإمكانك أن تستبدل ذلك بعز ورفعه ، وحقارة ودناءة بإمكانك أن تجعلها إباء ومنعه ، ومرض وشهوة ، وخيارك بيدك أن تحولها إلى عفة وصحة . كل ذلك يمكن أن يكون حين يحل القرآن كتاب الله تعالى محل الغناء رقية الزنا عافانا الله وإياك .
أخي الحبيب : الأمر أيسر مما تصوّر ، وليس بينك وبين السعادة إلا قرار صادق ، وعزيمة جادة ، وهمة تتحطّم عليها ذلة الشهوات ، وحين تكون كذلك سيكون رمضان في حقك هذا العام رمضان الانتصارات .
أخي الحبيب : هيا ، ضع يدك في يدي ، هيا قم إلى المعالي ، هيا نصعد جبال العز ، هيا نكتب حياتنا بوحي القرآن ، هيا نسير في ركب الأشعري أبي موسى وقد سرى ليلة كأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داود ، هيا نعيش على القرآن في نسمات الليل ، هيا نصدح بقرارنا في التنازل عن الشهوة ، والصبر عن المعصية ، ونعلنها مدوية أمام كل الأصدقاء ، هيا نقول لهم كفى إتباع للشيطان .
أخي الحبيب : هذه رسالتي بين يديك ، لا أطلب فيها سوى عزك ، ومجدك ، أريدك أن تسايرني في طريق المعالي ، أريدك رفيقاً صادقاً ، أريدك صاحب قرار ، فهل تجسر على مرافقتي ؟ دعني أقول لك : فكّر في رضاء ربك ورضاء الشيطان . فكّر وقارن أي الطريقين أسعد لك . تأمّل قبل أن تتخذ قرارك كم هو حب الله لك حين تختار طريق التوبة ؟ تحدث عن نفسك وأنت أسير أغنية ماجنة ، يروّج لها عدوك ، وتحدّث عن نفسك وأنت عبداً لخالقك ، وشيخاً عزيزاً بطاعتك . وحين تختار طريق العبودية أرجوك أن تهاتفني ، تدري لماذا ؟ أريد أن أحتفل معك ، أريد أن ابتهج بك ، أريدك أن ترافقني إلى عالم السعادة . أريد رجلاً مثلك قرّر بمفرده أن يكون عابداً ربانياً . أرجوك ألا تحرمني رؤيتك . أرجوك ألا تبخل علىّ بصوت توبتك . وأنا على انتظار رنين هاتفك